فصل: تفسير الآيات (123- 125):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (123- 125):

{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)}
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} كانت بدر يوم سبعة عشر من رمضان، يوم جمعة لثمانية عشر شهرا من الهجرة، وبدر ماء هنالك وبه سمي الموضع.
وقال الشعبي: كان ذلك الماء لرجل من جهينة يسمى بدرا، وبه سمي الموضع. والأول أكثر.
وقال الواقدي وغيره: بدر اسم لموضع غير منقول. وسيأتي في قصة بدر في الأنفال إن شاء الله تعالى. و{أَذِلَّةٌ} معناها قليلون، وذلك أنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر أو أربعة عشر رجلا. وكان عدوهم ما بين التسعمائة إلى الالف. و{أَذِلَّةٌ} جمع ذليل. واسم الذل في هذا الموضع مستعار، ولم يكونوا في أنفسهم إلا أعزة، ولكن نسبتهم إلى عدوهم وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض تقتضي عند التأمل ذلتهم وأنهم يغلبون. والنصر العون، فنصرهم الله يوم بدر، وقتل فيه صناديد المشركين، وعلى ذلك اليوم ابتنى الإسلام، وكان أول قتال قاتله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي صحيح مسلم عن بريدة قال: غزا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبع عشرة غزوة، قاتل في ثمان منهن. وفيه عن ابن إسحاق قال: لقيت زيد بن أرقم فقلت له: كم غزا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال تسع عشرة غزوة. فقلت: فكم غزوه أنت معه؟ فقال: سبع عشرة غزوة. قال فقلت: فما أول غزوة غزاها؟ قال: ذات العسير أو العشير. وهذا كله مخالف لما عليه أهل التواريخ والسير. قال محمد بن سعد في كتاب الطبقات له: إن غزوات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبع وعشرون غزوة، وسراياه ست وخمسون، وفي رواية ست وأربعون، والتي قاتل فيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدر واحد والمريسيع والخندق وخيبر وقريظة والفتح والطائف. قال ابن سعد: هذا الذي أجتمع لنا عليه.
وفي بعض الروايات أنه قاتل في بني النضير وفي وادي القرى منصرفه من خيبر وفي الغابة. وإذا تقرر هذا فنقول: زيد وبريدة إنما أخبر كل واحد منهما بما في علمه أو شاهده. وقول زيد: إن أول غزاة غزاها ذات العسيرة مخالف أيضا لما قال أهل التواريخ والسير. قال محمد بن سعد: كان قبل غزوة العشيرة ثلاث غزوات، يعني غزاها بنفسه.
وقال ابن عبد البر في كتاب الدرر في المغازي والسير. أول غزاة غزاها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزوة ودان غزاها بنفسه في صفر، وذلك أنه وصل إلى المدينة لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، أقام بها بقية ربيع الأول، وباقي العام كله. إلى صفر من سنة أثنتين من الهجرة: ثم حرج في صفر المذكور واستعمل على المدينة سعد بن عبادة حتى بلغ ودان فوادع بني ضمرة، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا، وهي المسماة بغزوة الأبواء. ثم أقام بالمدينة إلى شهر ربيع الأخر من السنة المذكورة، ثم خرج فيها واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون حتى بلغ بواط من ناحية رضوى، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا، ثم أقام بها بقية ربيع الأخر وبعض جمادى الأولى، ثم خرج غازيا واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، واخذ على طريق ملك إلى العسيرة.
قلت: ذكر ابن إسحاق عن عمار بن ياسر قال: كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة من بطن ينبع فلما نزلها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقام بها شهرا فصالح بها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة فوادعهم، فقال لي علي بن أبي طالب: هل لك أبا اليقظان أن تأتي هؤلاء؟ نفر من بني مدلج يعملون في عين لهم ننظر كيف يعملون. فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة ثم غشينا النوم فعمدنا إلى صور من النخل في دقعاء من الأرض فنمنا فيه، فو الله ما أهبنا إلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقدمه، فجلسنا وقد تتربنا من تلك الدقعاء فيومئذ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي: «ما بالك يا أبا تراب»، فأخبرناه بما كان من أمرنا فقال: «ألا أخبركم بأشقى الناس رجلين» قلنا: بلى يا رسول الله، فقال: «أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك يا علي على هذه» ووضع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده على رأسه- حتى يبل منها هذه ووضع يده على لحيته. فقال أبو عمر: فأقام بها بقية جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة، ووادع فيها بني مدلج ثم رجع ولم يلق حربا. ثم كانت بعد ذلك غزوة بدر الأولى بأيام قلائل، هذا الذي لا يشك فيه أهل التواريخ والسير، فزيد بن أرقم إنما أخبر عما عنده. والله أعلم. ويقال: ذات العسير بالسين والشين، ويزاد عليها هاء فيقال: العشيرة. ثم غزوة بدر الكبرى وهي أعظم المشاهد فضلا لمن شهدها، وفيها أمد الله بملائكته نبيه والمؤمنين في قول جماعة العلماء، وعليه يدل ظاهر الآية، لا في يوم أحد. ومن قال: إن ذلك كان يوم أحد جعل قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} إلى قوله: {تَشْكُرُونَ}؟؟ اعتراضا بين الكلامين. هذا قول عامر الشعبي، وخالفه الناس. تظاهرت الروايات بأن الملائكة حضرت يوم بدر وقاتلت، ومن ذلك قول أبي أسيد مالك بن ربيعة وكان شهيد بدر: لو كنت معكم ألان ببدر ومعي بصرى لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك ولا أمتري. رواه عقيل عن الزهري عن أبي حازم سلمة بن دينار. قال ابن أبي حاتم: لا يعرف للزهري عن أبي حازم غير هذا الحديث الواحد، وأبو أسيد يقال إنه آخر من مات من أهل بدر، ذكره أبو عمر في الاستيعاب وغيره.
وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم آت ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من الإسلام لا تعبد في الأرض» فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] فأمده الله تعالى بالملائكة. قال أبو زميل: فحدثني ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ يسمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربه السوط فأخضر ذلك أجمع. فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة» فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين. وذكر الحديث. وسيأتي تمامه في آخر الأنفال إن شاء الله تعالى. فتظاهرت السنة والقرآن على ما قاله الجمهور، والحمد لله. وعن خارجة بن إبراهيم عن أبيه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجبريل: «من القائل يوم بدر من الملائكة أقدم حيزوم؟» فقال جبريل: «يا محمد ما كل أهل السماء أعرف». وعن علي رضي الله عنه أنه خطب الناس فقال: بينا أنا أمتح من قليب بدر جاءت ريح شديدة لم أر مثلها قط، ثم ذهبت، ثم جاءت ريح شديدة لم أر مثلها قط إلا التي كانت قبلها. قال: وأظنه ذكر: ثم جاءت ريح شديدة، فكانت الريح الأولى جبريل نزل في ألف من الملائكة مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في ألف من الملائكة عن يمين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان أبو بكر عن يمينه، وكانت الريح الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا في الميسرة. وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: لقد رأيتنا يوم بدر وأن أحدنا يشير بسيفه إلى رأس المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه. وعن الربيع بن أنس قال: كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به، ذكر جميعه البيهقي رحمه الله.
وقال بعضهم: إن الملائكة كانوا يقاتلون وكانت علامة ضربهم في الكفار ظاهرة، لأن كل موضع أصابت ضربتهم اشتعلت النار في ذلك الموضع، حتى إن أبا جهل قال لابن مسعود: أنت قتلني؟! إنما قتلني الذي لم يصل سناني إلى سنبك فرسه وإن اجتهدت. وإنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة لتسكين قلوب المؤمنين، ولان الله تعالى جعل أولئك الملائكة مجاهدين إلى يوم القيامة، فكل عسكر صبر وأحتسب تأتيهم الملائكة ويقاتلون معهم.
وقال ابن عباس ومجاهد: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر، وفيما سوى ذلك يشهدون ولا يقاتلون إنما يكونون عددا أو مددا.
وقال بعضهم: إنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة أنهم كانوا يدعون ويسبحون، ويكثرون الذين يقاتلون يومئذ، فعلى هذا لم تقاتل الملائكة يوم بدر وإنما حضروا للدعاء بالتثبيت، والأول أكثر. قال قتادة: كان هذا يوم بدر، أمدهم الله بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف، فذلك قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} وقوله: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} [آل عمران: 124] وقوله: {بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] فصبر المؤمنون يوم بدر واتقوا الله فأمدهم الله بخمسة آلاف من الملائكة على ما وعدهم، فهذا كله يوم بدر.
وقال الحسن: فهؤلاء الخمسة آلاف ردء للمؤمنين إلى يوم القيامة. قال الشعبي: بلغ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى المسلمين، فأنزل الله تعالى: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ} إلى قوله: {مُسَوِّمِينَ} فبلغ كرزا الهزيمة فلم يمدهم ورجع، فلم يمدهم الله أيضا بالخمسة آلاف، وكانوا قد مدوا بألف.
وقيل: إنما وعد الله المؤمنين يوم بدر إن صبروا على طاعته، واتقوا محارمه أن يمدهم أيضا في حروبهم كلها، فلم يصبروا ولم يتقوا محارمه إلا في يوم الأحزاب، فأمدهم حين حاصروا قريظة.
وقيل: إنما كان هذا يوم أحد، وعدهم الله المدد إن صبروا، فما صبروا فلم يمدهم بملك واحد، ولو أمدوا لما هزموا، قاله عكرمة والضحاك. فإن قيل: فقد ثبت عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: رأيت عن يمين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن يساره يوم بدر رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه أشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد. قيل له: لعل هذا مختص بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خصه بملكين يقاتلان عنه، ولا يكون هذا إمدادا للصحابة. والله أعلم.
الثانية: نزول الملائكة سبب من أسباب النصر لا يحتاج إليه الرب تعالى، وإنما يحتاج إليه المخلوق فليعلق القلب بالله وليثق به، فهو الناصر بسبب وبغير سبب، {إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]. لكن أخبر بذلك ليمتثل الخلق ما أمرهم به من الأسباب التي قد خلت من قبل، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 62]، ولا يقدح ذلك في التوكل. وهو رد على من قال: إن الأسباب إنما سنت في حق الضعفاء لا للأقوياء، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه كانوا الأقوياء وغيرهم هم الضعفاء، وهذا واضح. ومد في الشر وأمد في الخير. وقد تقدم في البقرة. وقرأ أبو حيوة {منزلين} بكسر الزاي مخففا، يعني منزلين النصر. وقرأ ابن عامر مشددة الزاي مفتوحة على التكثير. ثم قال: {بلى} وتم الكلام. {إِنْ تَصْبِرُوا} شرط، أي على لقاء العدو. {وَتَتَّقُوا} عطف عليه، أي معصيته. والجواب {يُمِدَّكُمْ}. ومعنى: {مِنْ فَوْرِهِمْ} من وجههم. هذا عن عكرمة وقتادة والحسن والربيع والسدي وأبي زيد.
وقيل: من غضبهم، عن مجاهد والضحاك. كانوا قد غضبوا يوم أحد ليوم بدر مما لقوا. واصل الفور القصد إلى الشيء والأخذ فيه بجد، وهو من قولهم: فارت القدر تفور فورا وفورانا إذا غلت. والفور الغليان. وفار غضبه إذا جاش. وفعله من فوره أي قبل أن يسكن. والفوراة ما يفور من القدر.
وفي التنزيل {وَفارَ التَّنُّورُ} [هود: 40]. قال الشاعر:
تفور علينا قدرهم فنديمها

الثالثة: قوله تعالى: {مُسَوِّمِينَ} بفتح الواو اسم مفعول، وهي قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي ونافع. أي معلمين بعلامات. و{مُسَوِّمِينَ} بكسر الواو اسم فاعل، وهي قراءة أبي عمرو وابن كثير وعاصم، فيحتمل من المعنى ما تقدم، أي قد أعلموا أنفسهم بعلامة، وأعلموا خيلهم. ورجح الطبري وغيره هذه القراءة.
وقال كثير من المفسرين: مسومين أي مرسلين خيلهم، في الغارة. وذكر المهدوي هذا المعنى في: {مُسَوِّمِينَ} بفتح الواو، أي أرسلهم الله تعالى على الكفار. وقاله ابن فورك أيضا. وعلى القراءة الأولى اختلفوا في سيما الملائكة، فروى عن علي بن أبي طالب وابن عباس وغيرهما أن الملائكة أعتمت بعمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم، ذكره البيهقي عن ابن عباس وحكاه المهدوي عن الزجاج. إلا جبريل فإنه كان بعمامة صفراء على مثال الزبير بن العوام، وقال ابن إسحاق.
وقال الربيع: كانت سيماهم أنهم كانوا على خيل بلق.
قلت: ذكر البيهقي عن سهيل بن عمرو رضي الله عنه قال: لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض معلمين يقتلون ويأسرون. فقوله: معلمين دل على أن الخيل البلق ليست السيما. والله أعلم.
وقال مجاهد: كانت خيلهم مجزوزة الأذناب والأعراف معلمة النواصي والأذناب بالصوف والعهن. وروي عن ابن عباس: تسومت الملائكة يوم بدر بالصوف الأبيض في نواصي الخيل وأذنابها.
وقال عباد بن عبد الله بن الزبير وهشام بن عروة والكلبي: نزلت الملائكة في سيما الزبير عليهم عمائم صفر مرخاة على أكتافهم.
وقال ذلك عبد الله وعروة ابنا الزبير.
وقال عبد الله: كانت ملاءة صفراء أعتم بها الزبير رضي الله عنه.
قلت: ودلت الآية-
وهي الرابعة: على اتخاذ الشارة والعلامة للقبائل والكتائب يجعلها السلطان لهم، لتتميز كل قبيلة وكتيبة من غيرها عند الحرب، وعلى فضل الخيل البلق لنزول الملائكة عليها. قلت:- ولعلها نزلت عليها موافقة لفرس المقداد، فإنه كان أبلق ولم يكن لهم فرس غيره، فنزلت الملائكة على الخيل البلق إكراما للمقداد، كما نزل جبريل معتجرا بعمامة صفراء على مثال الزبير. والله أعلم. ودلت الآية أيضا- وهى الخامسة: على لباس الصوف وقد لبسه الأنبياء والصالحون.
وروى أبو داود وابن ماجه واللفظ له عن أبي بردة عن أبيه قال قال لي أبي: لو شهدتنا ونحن مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أصابتنا السماء لحسبت أن ريحنا ريح الضأن. ولبس صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبة رومية من صوف ضيقة الكمين، رواه الأئمة. ولبسها يونس عليه السلام، رواه مسلم. وسيأتي لهذا المعنى مزيد بيان في النحل إن شاء الله تعالى.
السادسة: قلت: وأما ما ذكره مجاهد من أن خيلهم كانت مجزوزة الأذناب والأعراف فبعد، فإن في مصنف أبي داود عن عتبة بن عبد السلمي أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «لا تقصوا نواصي الخيل ولا معارفها ولا أذنابها فإن أذنابها مذابها ومعارفها دفاؤها ونواصيها معقود فيها الخير». فيقول مجاهد يحتاج إلى توقيف من أن خيل الملائكة كانت على تلك الصفة. والله أعلم. ودلت الآية على حسن الأبيض والأصفر من الألوان لنزول الملائكة بذلك، وقد قال ابن عباس: من لبس نعلا أصفر قضيت حاجته.
وقال عليه السلام: «ألبسوا من ثيابكم البياض فإنه من خير ثيابكم وكفنوا فيه موتاكم وأما العمائم فتيجان العرب ولباسها».
وروى ركانة- وكان صارع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصرعه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال ركانة: وسمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس» أخرجه أبو داود. قال البخاري: إسناده مجهول لا يعرف سماع بعضه من بعض.